فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان كأنه قد قيل: كيف تكون المدافعة وبمن؟ فقيل: بعباده المؤمنين، عبر عن ذلك بقوله: {أذن} وأشار بقراءة من بناه للمجهول إلى سهولة ذلك عليه سبخانه {للذين يقاتلون} أي للذين فيهم قوة المدافعة، في المدافعة بالقتلا بعد أن كانوا يمنعون منه بمكة ويؤمرون بالصفح؛ ثم ذكر سبب الإذن فقال: {بأنهم ظلموا} أي وقع ظلم الظالمين لهم بالإخراج من الديار، والأذى بغير حق.
ولما كان التقدير: فأن الله أراد إظهار دينه بهم، عطف عليه قوله: {وإن الله} أي الذي هو الملك الأعلى، وكل شيء في قبضته، ويجوز عطفه على قوله: {إن الله يدفع} أي بإذنه لهم في القتال وأنه {على نصرهم} وأبلغ في التأكيد لا ستبعاد النصرة إذ ذاك بالكفار من الكثرة والقوة، وللمؤمنين من الضعف والقلة، فقال: {لقدير} ثم وصفهم بما يبين مظلوميتهم على وجه يجمعهم ويوثقهم بالله فقال: {الذين أخرجوا من ديارهم} إلى الشعب والحبشة والمدينة {بغير حق} أوجب ذلك {إلا أن يقولوا} أي غير قولهم، أو ألا قولهم: {ربنا الله} المحيط بصفات الكمال، الموجب لإقرارهم في ديارهم، وحبهم ومدحهم واقتفاء آثارهم، فهو من باب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

وفي سوق ذلك المساق الاستثناء عند من يجعله منقطعًا إشارة إلى أن من أخلص لله، صوب الناس إليه سهام مكرهم، ولم يدعوا في أذاه شيئًا من جهدهم.
ولما ذكر مدافعته، وذكر أنها بالمؤمنين، بين سرها عموما ليفهم منها هذا الخاص، وصورها تقريبًا لفهمها، فقال عاطفًا على ما تقديره: فلولا إذن الله لهم لاستمر الشرك ظاهرًا، والباطل- باستيلاء الجهلة على مواطن الحج- قاهرًا: {ولولا دفع الله} أي المحيط بكل شيء علمًا وقدرة في كل شريعة، وفي زمن كل نبي أرسله {الناس} أي عموما {بعضهم ببعض} أي بتسليط بعضهم على بعض {لهدمت صوامع} وهي معابد صغار مرتفعة للرهبان {وبيع} للنصارى {وصلوات} أي كنائس اليهود {ومساجد} أي للمسلمين، أخرها لتكون بعيدة من الهدم قريبة من الذكر {يذكر فيها اسم الله} أي الملك الذي لا ملك غيره، ولعل العدول عن الإضمار إلى الإظهار للإشارة إلى اختلاف ذكره تعالى في الأماكن المذكورة بالإخلاص وغيره {كثيرًا} لأن كل فرقة تريد هدم ما للأخرى، بل ربما أراد بعض أهل ملة إخراب بعض معابد أهل ملته، لا فبدفعه الله بمن يريد من عباده، وإذا تأملت ذلك وجدت فيه من الأسرار، ما يدق عن الأفكار، فإنه تعالى لما أراد بأكثر الناس الفساد، نصب لهم من الأضداد، ما يخفف كثيرًا من العناد.
ولما كان التقدير: ولَكِن لم تهدم المذكورات، لأن الله دفع بعضهم ببعض، وجعل بعضهم في نحور بعض، عطف عليه أو على قوله: {أذن} قوله: {ولينصرن الله} أي الملك الأعظم، وأظهر ولم يضمر تعميمًا وتعليقًا للحكم بالوصف فقال: {من ينصره} كائنًا كم كان منهم ومن غيرهم، بما يهيىء له من الأسباب، إجراءً له على الأمر المعتاد، وبغير أسباب خرقًا للعادة، كما وقع في كثير من الفتوحات، كخوض العلاء بن الحضرمي- رضي الله عنهم- البحر الملح إلى جواثاء بالبحرين، واقتحام سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهم- الدجلة مع عظمها في ذلك العام وطموها، وزيادتها وعلوها، وزلزلة أسوار حمص بالتكبير وتهدّم كثيرًا من بيوتها، عن إتقان بنيانها، وإحكام قواعدها وأركانها ونحو ذلك؛ ثم علل نصره وإن ضعف المنصور، بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {لقوي} أي على ما يريد {عزيز} لا يقدر أحد على مغالبته، ومن كان ناصره فهو المنصور، وعدوه المقهور، ولقد صدق سبحانه فيما وعد به، فأذل بأنصار دينه- رضي الله عنهم-- جبابرة أهل الأرض وملوكهم، ومن أصدق من الله حديثا.
ولما وصف نفسه سبحانه بما يقتضي تمكين منصوره الذي ينصره، وصفهم بما يبين أن قتالهم له، لا لهم، بعد أن وصفهم بأنهم أوذوا بالإخراج من الديار الذي يعادل القتل، فقال: {الذين} ولما كان وقت النصرة مبهمًا آخره يوم الفصل، عبر بأداة الشك ليكون ذلك أدل على إخلاص المخلص في القتال: {إن مكناهم} بما لنا من العظمة {في الأرض} بإعلائهم على أضدادهم {أقاموا الصلاة} أي التي هي عماد الدين، الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني {وآتوا الزكاة} المؤذنة بالزهذ في الحاصل منه، المؤذن بعمل النفس للرحيل {وأمروا بالمعروف} وهو ما عرفه الشرع وأجاره {ونهوا عن المنكر} المعرف بأنه لا أنس لهم إلا به سبحانه، ولا خوف لهم إلا منه، ولا رجاء فيه والآية دالة على صحة خلافة الأئمة الأربعة.
ولما كان هذا ابتداء الأمر بالجهاد، وكان عقب ما آذى أعداؤه أولياءه، فطال أذاهم لهم، فكان التقدير كما أرشد إليه العطف على غير مذكور، عطفًا على {ولولا دفع} فللّه بادئة الأمور، عطف عليه قوله: {ولله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء {عاقبة الأمور} فتمكينهم كائن لا محالة، لَكِن ذكره للعاقبة وطيه للبادئة منبه على أنه تعالى يجعل للشيطان- كما هو المشاهد في الأغلب- حظًا في البادئة، ليتبين الصادق من الكاذب، والمزلزل من الثابت، وأما العاقبة فهي متمحضة له إلى أن يكون آخر ذلك القيامة التي لا يكون لأحد فيها أمر، حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن خاص. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}.
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا من قبل أن الكفار صدوهم أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال: {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءَامَنُواْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بالألف ومثله {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف فيهما.
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم {إِنَّ الله يُدَافِعُ} بالألف {وَلَوْلاَ دَفْعُ} بغير ألف، فمن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، وقال الخليل يقال دفع الله المكروه عنك دفعًا ودافع عنك دفاعًا والدفاع أحسنهما.
المسألة الثانية:
ذكر {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين ءامَنُواْ} ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين. فلذلك قال بعده {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته.
المسألة الثالثة:
قال مقاتل: إن الله يدافع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة، هذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتلهم سرًّا فنهاهم.
المسألة الرابعة:
هذه الآية بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكف بوائقهم عنهم وهي كقوله: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} [آل عمران: 111] وقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءَامَنُواْ} [غافر: 51] وقال: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 172] {وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13].
أما قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فالمعنى أنه سبحانه جعل العلة في أنه يدافع عن الذين آمنوا أن الله لا يحب صدهم، وهو الخوان الكفور أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته ونظيره قوله: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وَتَخُونُواْ أماناتكم} [الأنفال: 27] قال مقاتل أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه؟
أما قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم في رواية حفص {أَذِنَ} بضم الألف والباقون بفتحها أي أذن الله لهم في القتال، وقرأ أهل المدينة وعاصم {يقاتلون} بنصب التاء، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {أَذِنَ} بنصب الف {ويقاتلون} بكسر التاء. قال الفراء والزجاج: يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل، ومن قرأ بفتح التاء فالتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال.
المسألة الثانية:
في الآية محذوف والتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه.
أما قوله: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} فالمراد أنهم أذنوا في القتال بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مشركوا مكة يؤذونهم أذى شديدًا وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية، وقيل نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركوا مكة فأذن في مقاتلتهم.
أما قوله: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} فذلك وعد منه تعالى بنصرهم كما يقول المرء لغيره إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك.
أما قوله تعالى: {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ} فاعلم أنه تعالى لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا فبين ذلك الظلم بقوله: {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يقولواْ رَبُّنَا الله} فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين: أحدهما: أنهم أخرجوهم من ديارهم والثاني: أنهم أخرجوهم بسبب أنهم قالوا: {رَبُّنَا الله} وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم، فإن قيل كيف استثنى من غير حق قولهم: {رَبُّنَا الله} وهو من الحق؟ قلنا تقدير الكلام أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير، ومثله {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله} [المائدة: 59] ثم بين سبحانه بقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ} أن عادته جل جلاله أن يحفظ دينه بهذا الأمر قرأ نافع {لَّهُدّمَتْ} بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: ما المراد بهذا الدفاع الذي أضافه إلى نفسه؟ الجواب: هو إذنه لأهل دينه بمجاهدة الكفار فكأنه قال تعالى: ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين، من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا ما يبنونه من مواضع العبادة، ولَكِنه دفع عن هؤلاء بأن أمر بقتال أعداء الدين ليتفرغ أهل الدين للعبادة وبناء البيوت لها، ولهذا المعنى ذكر الصوامع والبيع والصلوات وإن كانت لغير أهل الإسلام، وذكر المفسرون وجوهًا أخر: أحدها: قال الكلبي يدفع الله بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد وثانيها: روى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يدفع الله بالمحسن عن المسيء، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق وبالذي يحج عن الذي لا يحج، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه» ثم تلا هذه الآية وثالثها: قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة ورابعها: قال مجاهد يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص.
السؤال الثاني: لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ الجواب: لأجل ما سألت عنه اختلفوا على وجوه: أحدها: قال الحسن المراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين، وإن اختلفت العبارات عنها وثانيها: قول الزجاج ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلي فيه، فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الَكِنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه، وفي زمن عيسى الصوامع، وفي زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المساجد فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ وثالثها: بل المراد لهدمت هذه الصوامع في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها على كل حال يجري فيها ذكر الله تعالى فليست بمنزلة عبادة الأوثان.
السؤال الثالث: ما الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؟ الجواب: ذكروا فيها وجوهًا: أحدها: الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين عن أبي العالية رضي الله عنه وثانيها: الصوامع للنصارى وهي التي بنوها في الصحارى والبيع لهم أيضًا وهي التي يبنونها في البلد والصلوات لليهود، قال الزجاج وهي بالعبرانية صلوتًا وثالثها: الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود عن قتادة ورابعها: أنها بأسرها أسماء المساجد عن الحسن، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد.
السؤال الرابع: الصلوات كيف تهدم خصوصًا على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟ الجواب: من وجوه: أحدها: المراد بهدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان إذا قابله بالكفر دون الشكر وثانيها: بل المراد مكان الصلوات لأنه الذي يصح هدمه كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] أي أهلها وثالثها: لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه، كقولهم متقلدًا سيفًا ورمحًا، وإن كان الرمح لا يتقلد.
السؤال الخامس: قوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا} مختص بالمساجد أو عائد إلى الكل؟ الجواب: قال الكلبي ومقاتل عائد إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كثيرًا، والأقرب أنه مختص بالمساجد تشريفًا لها بأن ذكر الله يحصل فيها كثيرًا.
السؤال السادس: لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟ الجواب: لأنها أقدم في الوجود، وقيل أخرها في الذكر كما في قوله: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} [فاطر: 32] ولأن أول الفكر آخر العمل، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الرسل وأمته خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال قوله تعالى: {نحن الآخرون السابقون}.
أما قوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} فقال بعضهم من ينصره بتلقى الجهاد بالقبول نصرة لدين الله تعالى، وقال آخرون: بل المراد من يقوم بسائر دينه، وإنما قالوا ذلك لأن نصرة الله على الحقيقة لا تصح، وإنما المراد من نصرة الله نصرة دينه كما يقال في ولاية الله وعداوته مثل ذلك وفي قوله: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} وعد بالنصر لمن هذه حاله ونصر الله تعالى للعبد أن يقويه على أعدائه حتى يكون هو الظافر ويكون قائمًا بإيضاح الأدلة والبينات، ويكون بالإعانة على المعارف والطاعات، وفيه ترغيب في الجهاد من حيث وعدهم النصر، ثم بين تعالى أنه قوي على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين، وأنه لا يجوز عليه المنع وهو معنى قوله: {عَزِيزٌ} لأن العزيز هو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده.
ثم إنه سبحانه وتعالى وصف الذين أذن لهم في القتال في الآية الأولى فقال: {الذين إِنْ مكناهم في الأرض} والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله: {مكناهم في الأرض} ليس إلا هذا، ولأنا لو حملناه على أصل القدرة لكان كل العباد كذلك وحينئذ يبطل ترتب الأمور الأربعة المذكورة عليه في معرض الجزاء، لأنه ليس كل من كان قادرًا على الفعل أتى بهذه الأشياء.
إذا ثبت هذا فنقول: المراد بذلك هم المهاجرون لأن قوله: {الذين إِنْ مكناهم} صفة لمن تقدم وهو قوله: {الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} والأنصار ما أخرجوا من ديارهم فيصير معنى الآية أن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطنة، فإنهم أتوا بالأمور الأربعة، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لَكِن قد ثبت أن الله تعالى مكن الأئمة الأربعة من الأرض وأعطاهم السلطنة عليها فوجب كونهم آتين بهذه الأمور الأربعة.
وإذا كانوا آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر وجب أن يكونوا على الحق، فمن هذا الوجه دلت هذه الآية على إمامة الأربعة.
ولا يجوز حمل الآية على على عليه السلام وحده لأن الآية دالة على الجمع، وفي قوله: {وَلِلَّهِ عاقبة الأمور} دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة.
ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة فإنه سبحانه هو الذي لا يزول ملكه أبدًا وهو أيضًا يؤكد ما قلناه. اهـ.